سورة إبراهيم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ} متعلق بمحذوف، أي: اذكر وقت قوله، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم، وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة. وقيل: إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة. وقيل: لقصد الدعاء إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام {رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا} المراد بالبلد هنا: مكة. دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا، أي: ذا أمن، وقدّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا.
وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} يقال: جنبته كذا، وأجنبته وجنبته، أي: باعدته عنه، والمعنى: باعدني، وباعد بنيّ عن عبادة الأصنام، قيل: أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية، وقيل: أراد من كان موجوداً حال دعوته من بنيه وبني بنيه. وقيل: أراد جميع ذريته ما تناسلوا، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنماً، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر: {وأجنبني} بقطع الهمزة على أن أصله أجنب.
{رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل؛ لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه، ثم قال: {فَمَن تَبِعَنِى} أي: من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً {فَإِنَّهُ مِنّى} أي: من أهل ديني، جعل أهل ملته كنفسه مبالغة. {وَمَنْ عَصَانِى} فلم يتابعني ويدخل في ملتي {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قادر على أن تغفر له. قيل: قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به. كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري. وقيل: المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك. وقيل: إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك.
ثم قال: {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى} قال الفراء: من للتبعيض، أي: بعض ذرّيتي.
وقال ابن الأنباري: إنها زائدة، أي: أسكنت ذرّيتي، والأوّل أولى؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده {بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} أي: لا زرع فيه، وهو وادي مكة {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} أي: الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره؛ وقيل: إنه محرّم على الجبابرة. وقيل: محرم من أن تنتهك حرمته، أو يستخفّ به، وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة، ثم قال: {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام متعلقة بأسكنت، أي: أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه، متوجهين إليه، متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعلّ تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} الأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه.
وقيل: هو جمع وفد والأصل أوفدة، فقدّمت الفاء، وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: وجعل وفوداً من الناس تهوي إليهم، و{من} في {من الناس} للتبعيض. وقيل: زائدة، ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس؛ لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم، لا توجيهها إلى الحجّ، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه، وقيل: من للابتداء كقولك: القلب مني سقيم، يريد قلبي، ومعنى {تهوي إليهم}: تنزع إليهم، يقال: هوى نحوه: إذا مال، وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية: إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى: تجيء إليهم أو تسرع إليهم، والمعنى: متقارب، {وارزقهم مّنَ الثمرات} أي: أرزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك، أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه، أو تجلب إليه {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} نعمك التي أنعمت بها عليهم.
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} أي: ما نكتمه وما نظهره، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان. قيل والمراد هنا بما نخفي ما يقابل ما نعلن، فالمعنى: ما نظهره وما لا نظهره، وقدّم ما نخفي على ما نعلن للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه. وظاهر النظم القرآني عموم كل ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشيء معين من ذلك. وقيل: المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه، حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع، وما يعلنه من ذلك. وقيل: ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء. والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط، بل أراد جميع العباد، فكأن المعنى: أن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه. وأما قوله: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَئ فَى الأرض وَلاَ فِى السماء} فقال جمهور المفسرين: هو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه، فقال سبحانه: {وما يخفى على الله شيء} من الأشياء الموجودة كائناً ما كان. وإنما ذكر السموات والأرض لأنها المشاهدة للعباد، وإلاّ فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية.
قيل: ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقاً لقوله الأوّل، وتعميماً بعد التخصيص.
ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال: {الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} أي: وهب لي على كبر سني وسنّ امرأتي، قيل: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، قيل: و{على} هنا بمعنى (مع) أي: وهو لي مع كبري ويأسي عن الولد {إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء} أي: لمجيب الدعاء، من قولهم: سمع كلامه: إذا أجابه واعتدّ به وعمل بمقتضاه، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول، والمعنى: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك، ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظاً عليها غير مهمل لشيء منها، ثم قال: {وَمِن ذُرّيَتِى} أي: بعض ذريتي، أي: اجعلني واجعل بعض ذريتي مقيمين للصلاة، وإنما خصّ البعض من ذريته؛ لأنه علم أن منهم من لا يقيمها كما ينبغي. قال الزجاج: أي اجعل من ذرّيتي من يقيم الصلاة، ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم، ويدخل في ذلك دعاؤه في هذا المقام دخولاً أوّلياً. قيل: والمراد بالدعاء هنا: العبادة، فيكون المعنى: وتقبل عبادتي التي أعبدك بها، ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه، مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيراً، لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر. ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه، وقد قيل: إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه كما في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]. وقيل: كانت أمه مسلمة، وقيل: أراد بوالديه: آدم وحوّاء. وقرأ سعيد بن جبير: {ولوالدي} بالتوحيد على إرادة الأب وحده. وقرأ إبراهيم النخعي: {ولولديّ} يعني: إسماعيل وإسحاق، وكذا قرأ يحيى بن يعمر، ثم استغفر للمؤمنين. وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذرّيته أو لم يكن منهم. وقيل: أراد المؤمنين من ذرّيته فقط. {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أي: يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر، استعير له لفظ يقوم الذي هو حقيقته في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة. وقيل: إن المعنى: يوم يقوم الناس للحساب. والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} الآية قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته. واستجاب الله له، وجعل هذا البلد آمناً، ورزق أهله من الثمرات، وجعله إماماً، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن عقيل بن أبي طالب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه، فقرأ من سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} إلى آخر السورة، فرّق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه.
وأخرج الواقدي، وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه قال: كانت سارّة تحت إبراهيم، فمكثت تحته دهراً لا ترزق منه ولداً، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها قبطية، فولدت له إسماعيل، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها، وعتبت على هاجر، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أطراف، فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبرّي يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: اثقبي أذنيها واخفضيها، والخفض: هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً، فقالت سارّة: أراني إنما زدتها جمالاً، فلم تقارّه على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى} قال: أسكن إسماعيل وأمه مكة.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: إن إبراهيم حين قال: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} لو قال: أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة وطاوساً وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} فقالوا: البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه. وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} قال: تنزع إليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي: أن إبراهيم لما دعا للحرم {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} نقل الله الطائف من فلسطين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال: إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان، قال السيوطي: بسندٍ حسن، عن ابن عباس قالوا: لو كان إبراهيم عليه السلام قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجّ اليهود والنصارى والناس كلهم، ولكنه قال أفئدة من الناس فخصّ به المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} قال: من الحزن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى} قال: من حبّ إسماعيل وأمه {وَمَا نُعْلِنُ} قال: ما نظهر لسارّة من الجفاء لهما.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} قال: هذا بعد ذلك بحين.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: بشر إبراهيم بعد سبع عشرة سنة ومائة سنة.


قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو تعريض لأمته، فكأنه قال: ولا تحسب أمتك يا محمد، ويجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له من المكلفين، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من غير تعريض لأمته، فمعناه: التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] ونحوه. وقيل: المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم، بل سنّة الله سبحانه في إمهال العصاة {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي: يؤخر جزاءهم، ولا يؤاخذهم بظلمهم. وهذه الجملة تعليل للنهي السابق. وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في {نؤخرهم}. وقرأ الباقون بالتحتية. واختارها أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله} ومعنى {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي: ترفع فيه أبصار أهل الموقف، ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، هكذا قال الفراء، يقال: شخص الرجل بصره، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى، والمراد: أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرّك من شدة الحيرة والدهشة.
{مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين من أهطع يهطع إهطاعاً: إذا أسرع. وقيل: المهطع: الذي ينظر في ذلّ وخشوع، ومنه:
بدجلة دارهم ولقد أراهم *** بدجلة مهطعين إلى السماع
وقيل: المهطع: الذي يديم النظر. قال أبو عبيدة: قد يكون الوجهان جميعاً، يعني: الإسراع مع إدامة النظر؛ وقيل: المهطع الذي لا يرفع رأسه.
وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذلّ وخضوع. وقيل: هو الساكت. قال النحاس: والمعروف في اللغة أهطع: إذا أسرع {مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ} أي: رافعي رؤوسهم، وإقناع الرأس: رفعه، وأقنع صوته: إذا رفعه، والمعنى: أنهم يومئذٍ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذلّ، ولا ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل: إن إقناع الرأس نكسه؛ وقيل: يقال: أقنع: إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ ذلة وخضوعاً، والآية محتملة للوجهين. قال المبرد: والقول الأوّل أعرف في اللغة. قال الشاعر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا *** كأنما أبصر شيئاً أطمعا
{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: لا ترجع إليهم أبصارهم، وأصل الطرف: تحريك الأجفان، وسميت العين طرفاً، لأنه يكون بها، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يُوارِي جارتي مأواها
{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} الهواء في اللغة: المجوف الخالي الذي لم تشغله الأجرام.
والمعنى: أن قلوبهم خالية عن العقل والفهم، لما شاهدوا من الفزع والحيرة والدهش، وجعلها نفس الهوى مبالغة، ومنه قيل للأحمق والجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه ولا قوّة. وقيل: معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر. وقيل: المعنى: أن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير. وقيل: المعنى: أفئدتهم ذات هواء، ومما يقارب معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} [القصص: 10]، أي: خالياً من كل شيء إلاّ من همّ موسى.
{وَأَنذِرِ الناس} هذا رجوع إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره الله سبحانه بأن ينذر الناس. والمراد: الناس على العموم؛ وقيل: المراد: كفار مكة. وقيل: الكفار على العموم. والأوّل أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضاً للمسلم. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [ياس: 11]. ومعنى {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يوم القيامة، أي: خوّفهم هذا اليوم، وهو يوم إتيان العذاب، وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب؛ لأن المقام مقام تهديد. وقيل: المراد: به: يوم موتهم؛ فإنه أوّل أوقات إتيان العذاب؛ وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثانٍ لأنذر {فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} المراد بالذين ظلموا ها هنا: هم الناس، أي: فيقولون. والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم، هذا إذا كان المراد بالناس: هم الكفار. وعلى تقدير كون المراد بهم: من يعمّ المسلمين، فالمعنى: فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار {ربنا أخرنا} أمهلنا {إلى أجل قريب} إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} أي: دعوتك لعبادك على ألسن أنبيائك إلى توحيدك {وَنَتَّبِعِ الرسل} المرسلين منك إلينا فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك، ونتدارك ما فرط منا من الإهمال، وإنما جمع الرسل؛ لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة؛ فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم، وهذا منهم سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
ثم حكى سبحانه ما يجاب به عنهم عند أن يقولوا هذه المقالة، فقال: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} أي: فيقال لهم هذا القول توبيخاً وتقريعاً، أي: أولم تكونوا أقسمتم من قبل هذا اليوم مالكم من زوال من دار الدنيا. وقيل: إنه لا قسم منهم حقيقة. وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات، وإخلادهم إلى الحياة الدنيا. وقيل: قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]، وجواب القسم {مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ} وإنما جاء بلفظ الخطاب في {مالكم من زوال} لمراعاة {أقسمتم} ولولا ذلك لقال: مالنا من زوال.
{وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أي: استقررتم، يقال: سكن الدار وسكن فيها، وهي بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله، والعصيان له {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} قرأ عبد الرحمن السلمي {نبين} بالنون والفعل المضارع، وقرأ من عداه بالتاء الفوقية والفعل الماضي، أي: تبين لكم بمشاهدة الآثار كيف فعلنا بهم من العقوبة والعذاب الشديد بما فعلوه من الذنوب، وفاعل تبين ما دلت عليه الجملة المذكورة بعده، أي: تبين لكم فعلنا العجيب بهم {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} في كتب الله وعلى ألسن رسله إيضاحاً لكم وتقريراً وتكميلاً للحجة عليكم.
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} الجملة في محل نصب على الحال، أي: فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في ردّ الحق وإثبات الباطل مكرهم العظيم، الذي استفرغوا فيه وسعهم {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي: وعند الله جزاء مكرهم، أو وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم، أو وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به، على أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول، قيل: والمراد بهم: قوم محمد صلى الله عليه وسلم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين هموا بقتله أو نفيه. وقيل: المراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء، فاتخذ لنفسه تابوتاً، وربط قوائمه بأربعة نسور.
{وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} قرأ عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي {وإن كاد مكرهم} بالدال المهملة مكان النون. وقرأ غيرهم من القراء {وإن كان} بالنون. وقرأ ابن محيص، وابن جريج، والكسائي {لتزول} بفتح اللام على أنها لام الابتداء، وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود. قال ابن جرير: الاختيار هذه القراءة، يعني: قراءة الجمهور؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة، فعلى قراءة الكسائي ومن معه تكون إن هي المخففة من الثقيلة. واللام هي الفارقة، وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدّته، أي: وإن الشأن كان مكرهم معدّاً لذلك. قال الزجاج: وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصر دينه. وعلى قراءة الجمهور يحتمل وجهين: أحدهما أن تكون (أن) هي المخففة من الثقيلة، والمعنى كما مرّ. والثاني: أن تكون نافية، واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهر، فالجملة على هذا حال من الضمير في {مكروا} لا من قوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي: والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ميمون بن مهران في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} قال: هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} قال: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مُهْطِعِينَ} قال: يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف {مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ} قال: الإقناع رفع رؤوسهم {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} قال: شاخصة أبصارهم {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} ليس فيها شيء من الخير، فهي كالخربة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد {مهطعين} قال: مديمي النظر.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة {مهطعين} قال: مسرعين.
وأخرج هؤلاء عن قتادة في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} قال: ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يقول: أنذرهم في الدنيا من قبل أن يأتيهم العذاب.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} هو يوم القيامة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ} قال: عما أنتم فيه إلى ما تقولون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ} قال: بعث بعد الموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن في قوله: {وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} قال: عملتم بمثل أعمالهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} يقول: ما كان مكرهم {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} يقول: شركهم كقوله: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} [مريم: 90].
وأخرج عبد بن حميد، ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري عن عليّ ابن أبي طالب، أنه قرأ هذه الآية: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} ثم فسرها فقال: إن جباراً من الجبابرة قال: لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت، وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين، ثم جعل في وسطه خشبة، ثم ربط أرجلهنّ بأوتاد، ثم جوّعهنّ، ثم جعل على رأس الخشبة لحماً، ثم دخل هو وصاحبه في التابوت، ثم ربطهنّ إلى قوائم التابوت، ثم خلي عنهنّ يردن اللحم، فذهبن به ما شاء الله، ثم قال لصاحبه: افتح فانظر ماذا ترى، ففتح فقال: انظر إلى الجبال كأنها الذباب، قال: أغلق فأغلق، فطرن به ما شاء الله، ثم قال: افتح ففتح، فقال: انظر ماذا ترى، فقال: ما أرى إلاّ السماء، وما أراها تزداد إلاّ بعداً، قال: صوّب الخشبة فصوّبها فانقضت تريد اللحم، فسمع الجبال هدّتها فكادت تزول عن مراتبها.
وقد روي نحو هذه القصة لبختنصر وللنمروذ من طرق ذكرها في الدرّ المنثور.


{مُخْلِفَ} منتصب على أنه مفعول {تحسبنّ} وانتصاب {رسله} على أنه مفعول {وعده} قيل: وذلك على الاتساع، والمعنى: مخلف رسله وعده. قال القتيبي: هو من المقدّم الذي يوضحه التأخير. والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في ذلك مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظلّ رأسه *** وسائره باد إلى الشمس أجمع
وقال الزمخشري: قدّم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 9]. ثم قال: {رسله} ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته. والمراد بالوعد هنا: هو ما وعدهم سبحانه بقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] و{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]. وقرئ: {مخلف وعدهَ رسِله} بجرّ {رسله} ونصب {وعده}. قال الزمخشري: وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ: {قتل أولادهم شركائهم} [الأنعام: 137]. {إنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يغالبه أحد {ذُو انتقام} ينتقم من أعدائه لأوليائه والجملة تعليل للنهي، وقد مرّ تفسيره في أوّل آل عمران.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} قال الزجاج: انتصاب {يوم} على البدل من {يوم يأتيهم} أو على الظرف للانتقام. انتهى. ويجوز أن ينتصب بمقدّر يدل عليه الكلام، أي: واذكر، أو وارتقب، والتبديل قد يكون في الذات، كما في: بدّلت الدراهم دنانير، وقد يكون في الصفات كما في: بدّلت الحلقة خاتماً. والآية تحتمل الأمرين.
وقد قيل: المراد: تغير صفاتها. وبه قال الأكثر، وقيل تغير ذاتها، ومعنى {*والسموات} أي: وتبدّل السموات غير السموات على الاختلاف الذي مرّ {والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} أي: برز العباد لله، أو الظالمون كما يفيده السياق، أي: ظهروا من قبورهم، أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه. والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله: {وَنُفِخَ فِى الصور} [يس: 51، الزمر: 68، ق: 20] و{الواحد القهار} المتفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده.
{وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأصفاد} معطوف على {برزوا} أو على {تبدّل} والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة، والمجرمون هم: المشركون، و{يومئذٍ} يعني: يوم القيامة، و{مُقْرِنِينَ} أي: مشدودين إما بجعل بعضهم مقروناً مع بعض، أو قرنوا مع الشياطين، كما في قوله: {نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم، والأصفاد: الأغلال، والقيود. والجار والمجرور متعلق بمقرّنين، أو حال من ضميره. يقال: صفدته صفداً، أي: قيدته، والاسم: الصفد، فإذا أردت التكثير، قلت صَفَّدته. قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا *** وأبنا بالملوك مصفدينا
وقال حسان بن ثابت:
من بين مأسور يشدّ صفاده *** صقر إذا لاقى الكريهة حامي
ويقال: صفدته وأصفدته: إذا أعطيته. ومنه قول النابغة:
ولم أعرّض أبيت اللعن بالصفد ***
{سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} السرابيل: القُمص، واحدها سربال. ومنه قول كعب بن مالك:
تلقاكم عصب حول النبيّ لهم *** من نسج داود في الهيجا سرابيل
والقطران: هو قطران الإبل الذي تهنأ، به أي: قمصانهم من قطران تطلى به جلودهم، حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل. وخصّ القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته.
وقال جماعة: هو النحاس، أي: قمصانهم من نحاس. وقرأ عيسى بن عمر {من قطران} بفتح القاف، وتسكين الطاء. وقرئ بكسر القاف وسكون الطاء. وقرئ بفتح القاف والطاء. رويت هذه القراءة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويعقوب وهذه الجملة في محل نصب على الحال {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} أي: تعلو وجوههم وتضر بها؛ وخص الوجوه؛ لأنها أشرف ما في البدن، وفيها الحواس المدركة، والجملة في محل نصب على الحال أيضاً، و{لّيَجْزِىَ الله} متعلق بمحذوف، أي: يفعل ذلك بهم ليجزي {كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من المعاصي، أي: جزاء موافقاً لما كسبت من خير أو شرّ {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لا يشغله عنه شيء.
وقد تقدّم تفسيره.
{هذا بلاغ} أي: هذا الذي أنزل إليك بلاغ، أي: تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير. قيل: إن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا} إلى {سَرِيعُ الحساب} أي: هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة. وقيل: الإشارة إلى جميع السورة. وقيل: إلى القرآن. ومعنى: {لِلنَّاسِ} للكفار، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله: {وَأَنذِرِ الناس} {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} معطوف على محذوف، أي: لينصحوا ولينذروا به، والمعنى: وليخوفوا به، وقرئ: {ولينذروا} بفتح الياء التحتية والذال المعجمة. يقال: نذرت بالشيء أنذر: إذا علمت به فاستعددت له. {وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي: ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقاً وحدانية الله سبحانه، وأنه لا شريك له {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي: وليتعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات متعلقة بمحذوف، والتقدير: وكذلك أنزلنا، أو متعلقة بالبلاغ المذكور، أي: كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه، وأنه لا شريك له، وليتعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} قال: عزيز والله في أمره، يملي وكيده متين، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة.
وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان، قال: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الظلمة دون الجسر».
وأخرج مسلم أيضاً وغيره من حديث عائشة، قالت: أنا أوّل من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} قالت: أين الناس يومئذٍ؟ قال: «على الصراط».
وأخرج البزار، وابن المنذر، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، وابن عساكر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} قال: «أرض بيضاء، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل بها خطيئة» وأخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عنه موقوفاً نحوه، قال البيهقي: والموقوف أصح.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: أتى اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} قال: أرض بيضاء كالفضة، فسألهم فقالوا: أرض بيضاء كالنقيّ».
وأخرج ابن مردويه مرفوعاً عن عليّ نحو ما تقدّم عن ابن مسعود.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن أنس موقوفاً نحوه، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي» وفيهما أيضاً من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده...» الحديث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مُّقَرَّنِينَ فِى الأصفاد} قال: الكبول.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة في {الأصفاد} قال: القيود والأغلال.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: في السلاسل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {فِى الأصفاد} يقول: في وثاق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي {سَرَابِيلُهُم} قال: قمصهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {مّن قَطِرَانٍ} قال: قطران الإبل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: هذا القطران يطلى به حتى يشتعل ناراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو النحاس المذاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قرأ: {مّن قَطِرَانٍ} فقال: القطر: الصفر، والآن: الحارّ.
وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة نحوه.
وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {هذا بلاغ لّلنَّاسِ} قال: القرآن، {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} قال: القرآن.

1 | 2 | 3